
مقدمة
نظرية الأنماط السلوكية هي نظرية علاجية نفسية تهتم بالإضطرابات المتجذرة في الشخصية و سلوكياتها. وتهدف إلى معالجة الطبائع و الميزات النفسية المزمنة الناتجة عن الإكتئاب، القلق و التوتر، اضطرابات السلوك الغذائي، المشاكل الزوجية و الإنتكاسات الإدمانية، الخ…
تستند نظرية “جيفري يونغ” على الأنماط السلوكية المبكرة الناتجة عن عدم التوافق و سوء التكيف و ديمومة هذه الأنماط فاعلة في السلوك الشخصي.
ما المقصود بالنمط المبكر لعدم التوافق؟
يتكون النمط من مجموعة من الإعتقادات التي تمثل المعرفة الأساسية المُشَكَّلة من فهمنا لأنفسنا، من فهمنا للآخرين و لباقي الوجود. تتكون، تتطوَّر و تنمو هذه المعرفة من خلال تجاربنا على مدار الحياة. في بعض الأحيان، يتكون لدينا اعتقاد خاطئ ينتج عن أنفسنا، عن شخص آخر، عن حدث أو تجربة تم إدراكها و تفسيرها بشكل مُجانبٍ للصواب. على سبيل المثال، قد تعتقد أنك شخص غير قادرٍ على تدبير أموره و شؤونه بمفرده. هذا الإعتقاد يُمكن أن ينسلَّ إليك من كون والدتك إنسانة تُفرط في حمايتك و تلبية كل حاجياتك. كل فرد منا، سمع، في طفولته، عبارات و خطابات، ناتجة عن البالغين و خصوصا الأم، آمنَّا بها و استوعبناها و نحن أطفال من قبيل “إنك تافه” أو “إنك قبيح و مشاغب”.
بصفة عامة، نحن نتعلم بمرور الوقت أننا لا يمكن أن نُختزل في هذه العبارات و الخطابات فقط، و بأن الآخرين مخطئون بنعتنا بها. و لكن، يمكن أن يحدث أن تنغرِس، تتجذر و تتأصَّل هذه العبارات و النعوت في عمق اللاوعي مما يَحُول دون تطورنا الذاتي و تنمية ثقتنا بأنفسنا.
مع مرور الوقت، سنعمل على إدامة و تكريس هذا النمط إما باعتباره هو الحقيقة الدائمة أو عن طريق تجنُّبه أو /و تبني سلوك معاكس دائما لتبرير بأننا “لسنا كذلك”، أو بمحاولة تعويض هذا الإعتقاد بسِماتٍ أخرى لمحاولة دمجها في شخصيتنا.
و النمط المبكر لعدم التوافق هو نموذج أو موضوع مهم يقتحم الذات و يجتاح علاقاتنا مع الآخرين. يتشكل منذ الخلق و خلال مرحلة الطفولة ثم المراهقة، و تستمر عملية إثرائه طوال الوجود. من خصائصه أنه غير وظيفي، يعني غير فعال في حياتنا، هذا يعني أنه يجعلنا نضع أنفسنا في مواقف لا تناسبنا، و يدفعنا إلى إنتاج/إقامة علاقات صعبة مع الآخرين، الشيء الذي يجعلنا دائما نسترجع ذكريات غير سارة بكل حمولتها الفكرية، العاطفية و أحاسيسها الجسدية.
على سبيل المثال، الشخص الذي لديه نمط من الشعور بالهجر و التخلِّي سيواجه محنة كبيرة إذا ما ابتعد و نأى عنه أطفاله أو/و زوجه لأن ذلك سوف يجعله يعيش إحساسا فظيعا و مدمِّراً بالتخلِّي و الهجر على الرغم من عدم وجود ذلك موضوعيا و حقيقةً. و يكمن الخطر هنا في كون هذا الإحساس يؤدي بالآخر إلى الشعور بأنه مُذنب خصوصا أنه يشعر بالعجز الكلِّي أمام المحنة و الضيق الذي يكون بسببه لا إراديا مما قد يدفعه، فعلا، إلى أخذ مسافة أكبر أو اختيار ترك الشخص كلِّيا في النهاية.
يوضح لنا هذا المثال كيف أن النمط لديه وظيفة تضخيمية، حيث يدخل كميكانيزم/ كآلية لا إرادية و غير واعية للتكرار و التي تدفع الشخص، في النهاية، إلى القول و الإستنتاج بأن مخاوفه كانت حقيقية و واقعية بما أن الآخر قد أخذ مسافة أكبر في نهاية المطاف.
يحدد “جيفري يونغ” ثمانية عشرة نمطا تُكرِّس عدم التوافق و عدم القدرة على التكيف، تكمن وراء واحِدٍ أو عدةِ اضطرابات للشخصية. وتنقسم هذه المجموعة من الأنماط إلى خمس فئاتٍ رئيسية هي:
أ – الأنماط المبكرة للإنفصال و النَّبْذ
ب – الأنماط المبكرة للإفتقار إلى الإستقلال الذاتي و الفعالية
ج – الأنماط المبكرة لعدم وجود الحدود
د – الأنماط المبكرة للإعتماد على الآخرين
ه – الأنماط المبكرة للحذر المُفرط و التَّثْبيط
أ – الأنـماط المبكرة للإنفصال و النَّبْذ
تنشأ و تظهر عندما يكون اليقين بأن احتياجاتنا من الأمن و الاستقرار، من المودة و التعاطف، من التفهُّم و التفاهم و من القبول و الإحترام لن يتم الوفاء بها. هذا اليقين له أصل أسري/عائلي نموذجي: يتعلق الأمر بالعائلات التي يسودها مناخ من الإنفصال مع إمكانية الإهتزاز و الإنفجار في أي لحظة؛ مناخ حيث يسود الرفض و العقوبة؛ مناخ حيث يتسم البالغون بالصرامة و البرودة و يسيئون معاملة الطفل. تضم هذه الفئة الأنماط التالية:
الهجر / عدم الاستقرار
يتعلق هذا النمط بالنقص في الإستقرار و عدم الوثوق في الأشخاص/الرموز الذين يقدمون و يدعمون الشعور بالإنتماء الاجتماعي. و معه يكون الإحساس بأن الأشخاص “المُهِمِّين” لن يستمروا في منحنا دعمهم و قوتهم أو حمايتهم لأنهم غير مستقرين عاطفيا و ينقلبون فجأة (نوبات من الغضب) وغير موثوق بهم؛ أو لن يكونوا موجودين و حاضرين دائما لأنهم سيموتون قريبا أو سيهجروننا و يتخلَّوْن عنا من أجل شخص أفضل منا.
سوء الظن و الإرتياب / سوء المعاملة
نتوقع من الآخرين أن يُؤذوننا، يسيئون إلينا، يذلُّوننا، يكذبون علينا، يغشونا و يستغلُّوننا. بشكل عام، يُنظر إلى المعاناة التي يتم التعرض لها على أنها مقصودة أو ناتجة عن إهمال و هي شديدة و لا مبرر لها. هذا، يمكن أن يشمل أيضا الشعور بأنك محروم باستمرار مقارنة بالآخرين و أنك دائما “أسود الطالع”.
نقص عاطفي
نتعرف على وجود هذا النمط عندما يكون لنا اليقين و نكون واثقين من أن الآخرين لن يقدموا الدعم العاطفي الذي نحتاجه. و يمكننا التمييز بين ثلاث أصناف من النقص العاطفي:
- قلة الدعم العاطفي: قلة الإنتباه، المودة، الدفء، الحنان أو الحضور الودود.
- عدم التعاطف: عدم وجود من يتفهمُّنا و يستمع إلينا ومن يمكننا الحديث له عن أنفسنا.
- غياب الحماية: عدم وجود شخص قوي يُرشد و ينصَح.
النقص / العار
نحكم على أنفسنا بعدم الكمال، أننا “سيئين”، أدنى منزلة أو غير قادرين. الكشف عن هذا، سيؤدي إلى فقدان المودة و العطف لدى الآخرين. يمكن أن يشمل كذلك فرط الحساسية أمام مواقف النقد، اللوم، الهجر و التخلي. قد يكون هناك عدم ارتياح عند أو خلال مقارنات بالآخرين مع انعدام الثقة بالنفس. يمكننا أن نشعر بالعار من العيوب المُدركة التي يمكن أن تكون داخلية مثل الأنانية، الغضب و الرغبات الجنسية غير المقبولة؛ أو خارجية مثل أي عيب جسدي و عدم الارتياح الاجتماعي.
العزلة / الإغتراب
الشعور بالعزلة و الإنفصال عن بقية العالم بالإختلاف عن الآخرين و / أو الشعور بعدم الإنتماء أو لسنا جزءا من أي مجموعة أو مجتمع.
ب – الأنماط المبكرة للإفتقار إلى الإستقلال الذاتي و الفعالية
المتطلبات، المستلزمات و المقتضيات اتجاه النفس و اتجاه العالم الخارجي لا تتناسب مع القدرة (المُدركة) على العيش و البقاء على الفعل و العمل بشكل مستقل و على الوصول إلى تحقيق النجاح الكافي. قد يكون هذا مرتبطا بأصل عائلي نموذجي خصائصه أسرة / عائلة “خانقة” حيث يكون الطفل محمياً بشكل مفرط مما يقَوِّض و يهدم الثقة بالنفس. كذلك هناك غياب لتشجيع العلاقات خارج الأسرة / العائلة، غياب ينتج عنه عجز مُهوِل في تعلم المهارات الاجتماعية.
التبعية / عدم الكفاءة
اعتقاد الفرد قويا في عدم كفاءته و عدم قدرته على تحمل المسؤوليات اليومية. هذا يترتب عنه، على سبيل المثال، عدم قدرة الفرد على الإعتناء بنفسه، حل مشكلاته اليومية، الاضطلاع بمهام جديدة، اتخاذ القرارات أو البرهنة على استخدام الفطرة السليمة. بسبب هذا النمط، دائما ما نسمع القول “أنا غير قادر على…”
الخوف من أحداث لا مفر منها / لا يمكن السيطرة عليها
خوف مبالغ فيه من كارثة لا يمكن تجنبها. تتعلق و تتوزع هذه المخاوف على واحد أو أكثر من الإحتمالات مثل:
- الصحة: النوبات القلبية، الإصابة بالسرطان، الإصابة بمرض فقدان المناعة المكتسبة.
- العواطف: فقدان العقل
- كوارث طبيعية أو رُهاب: زلزال، تسونامي، فيضان، مصاعد، طائرات، تجمعات، الخ…
الحماية المفرطة / ضمور الشخصية
الإرتباط العاطفي المفرط بشخص أو أكثر، غالبا بالوالدين على حساب تكيف اجتماعي طبيعي. غالبا ما يكون هناك اعتقاد بأن فرداً واحداً، على الأقل، لا يمكن أن يعيش بعد الآخر، أو أن يكون سعيدا بدونه. يمكن أن يكون لنا الشعور و الإحساس أننا نختنق بسبب الآخرين، أو نشك في أنفسنا و في هويتنا الشخصية / الخاصة. كذلك، الشعور بالفراغ، بدون هدف، أو في الحالات القصوى نتساءل عن ماهية وجودنا.
الفشل
الإعتقاد بأننا قد فشلنا، أو/ و أننا سنفشل، و أننا غير قادرين على النجاح مثل الآخرين في مجالات كالدراسة و التحصيل، المسار المهني، الرياضة، الخ… غالبا و في الكثير من الأحيان ما نحكم على أنفسنا على أننا أغبياء، غير قادرين، غير لائقين، بلا موهبة، جاهلين و أدنى من باقي الآخرين، ألخ.
ج – الأنماط المبكرة لعدم وجود الحدود
يمكن أن يتعلق الأمر بالإنعدام أو الإفتقار إلى الحدود الداخلية، أو انعدام و نقص الإحساس بالمسؤولية اتجاه الآخرين، أو عدم القدرة على دعم الأهداف على المدى الطويل و الحفاظ عليها. هذا من شأنه أن يترتب عنه و عليه مشاكل تتعلق بحقوق الآخرين أو ترتبط بالأهداف الخاصة للفرد. المنبع النموذجي لهذا النمط يجب البحث عنه في أسرة / عائلة حيث يتسم الوالدان بالضعف و متسامحين حد الإفراط، لا يتوفرون على القدرة أو الإستطاعة لفرض الإنضباط. في هذه التشكيلة لا يتم تشجيع الطفل على تحمل المسؤولية، أو تحمُّلِ نقصٍ ما في أدوات و إمكانيات الراحة و غالبا ما يكون غير خاضع للإشراف، المراقبة أو التوجيه، بشكل كافي.
حقوق شخصية / هيمنة
هذا يتوافق مع الحاجة إلى قيام أو حصول الفرد على ما يريده بالضبط دون التفكير في تكلفته بالنسبة للآخرين؛ أو إلى الميل المفرط لتأكيد قوة الفرد و وجهة نظره و السيطرة على الآخرين لمصلحته الخاصة دون مراعاة رغبتهم في الاستقلال الذاتي. و تتميز الشخصية بالمطالب المفرطة و نقص عام في التعاطف.
عدم ضبط النفس / الانضباط الشخصي
تكمن المشكلة المركزية في عدم القدرة أو الرفض التام لضبط النفس. لا يمكننا تحمُّل أن نُحبط في رغابتنا و لا نستطيع أن نخفف و نُهدِّئ من حدة التعبير عن مشاعرنا و حوافزنا المندفعة. في شكل أكثر اعتدالا، نحاول بأي ثمن، تجنب كل ما هو مؤلم مثل الصراع، المواجهة، المسؤوليات و الجهد على حساب الشعور بالإشباع و الارتياح الشخصي.
د – الأنماط المبكرة للإعتماد على الآخرين
تتوافق هذه الفئة من الأنماط، بشكل عام، مع الأهمية المفرطة التي ترتبط و تُعَلَّقُ على احتياجات، رغبات و ردود فعل الآخرين، على حساب احتياجاتنا الخاصة بهدف الحصول على عاطفتهم و قبولهم لشخصنا و خوفا من تخلِّيهم عنا و هجرهم لنا أو لتجنب الإنتقام. كثيرا ما يكون هناك غضب مكبوت و ليس لنا به وعي. ليس لدينا مدخل واعي إلى نقص مشاعرنا و ميولاتنا. يجب البحث عن الأصل الأسري/ العائلي لهذه الأنماط في باب المودة، الحنان و العاطفة المشروطة: لكي يشعر الطفل بالحب من والديه، للحصول على استحسانهم و قبولهم يقوم بقمع ميوله الطبيعية. احتياجات الوالدين (العاطفية، الاجتماعية، السيكولوجية، نمط الحياة) لها الأسبقية على احتياجات الطفل و ردود أفعاله.
الخضوع
السلوك، التعبير عن المشاعر و القرارات يخضع تماما للآخرين لأن الفرد يشعر بأنه مجبر على القيام بذلك، عادة، لتجنب الغضب، الإنتقام، أو الهجر. في رأينا، رغباتنا، مشاعرنا و آراؤنا لا تهم الآخرين. بشكل عام، نُظهر الإنقياد المفرط، لكننا نتفاعل و نرُدُّ بقوة إذا شعرنا أننا محاصرون. هناك دائما غضب مكبوت اتجاه أولئك الذين نخضع لهم مما يتسبب في اضطرابات في الشخصية: سلوكات سلبية/عدوانية، نوبات الغضب، الاضطرابات العاطفية، الأعراض السيكوسوماتية، المخدرات، الخ…
التضحية بالنفس
يكون لدينا قلق مبالغ فيه باعتبار الآخرين، دائما، قبل أنفسنا؛ هذا الإعتبار طوعي. و الأسباب الكامنة وراء هذا عامة هي: الخوف من إيذاء الآخرين، تجنب الشعور بالذنب، تجنب الشعور بالأنانية و المحافظة على اتصال، يُنظر إليه على أنه، ضروري للآخرين. هذا النمط، غالبا ما يؤدي إلى فرط الحساسية لمعاناة الآخرين. و قد نشعر أن احتياجاتنا الخاصة لا تتم تلبيتها أبدا، مما يترتب عنه شعور بالاستياء اتجاه الآخرين.
الحاجة إلى الإقرار و القبول
هنا، المشكلة المركزية هي الحاجة المفرطة إلى الاهتمام، التقدير و قبول الآخرين؛ أو نفعل ما يطلبه الآخرون، سواء كان هذا متطابقا مع ما تريده النفس أم لا. تتبلور و تتشكل قيمة “احترام الذات” من ردود أفعال الآخرين و ليس من الآراء و القيم الشخصية. في بعض الأحيان، يكون التأكيد مُرَكَّزاً على نمط الحياة، المظاهر، المال، المنافسة، الإنجاز (يجب أن نكون الأفضل و الأكثر شعبية) من أجل كسب التقدير و القبول. في الكثير من الأحيان، تكون الخيارات المهمة في الحياة غير مرتبطة بنا أو تكون خيارات لا تجلب لنا الرضى و الراحة. حساسيتنا تكون مفرطة للرفض، نحن نحسد أولئك الذين عملوا بشكل أفضل.
ه – الأنماط المبكرة للحذر المُفرط و التَّثْبيط
الخاصية الرئيسية لمجموعة الأنماط هذه هي التحكم المبالغ فيه في ردود الفعل، المشاعر و الإختيارات لتجنب الأخطاء أو للحفاظ على قواعد شخصية صارمة في سلوكنا و أدائنا و في الغالب، على حساب جوانب أخرى من الحياة: الملذات، الهوايات و الأصدقاء…أو على حساب صحتنا.
نموذج الأسرة / العائلة الذي يُنتِج هذه الفئة من الأنماط هو نموذج بائس، ما هو مهم فيه هو العمل، الواجب، الكمال، الطاعة و تجنب الأخطاء. تلك اعتبارات أهم بكثير من السعادة و الفرح أو الإسترخاء. في الغالب، يكون القلق و التشاؤم واضحا، كل شيء يبقى ممكن الوقوع و الوضع قابل للإنهيار في أي لحظة إذا لم نكن يقظين لذلك.
الخوف من الأحداث التي يمكن تجنبها/السلبية
يظهر في المقدمة الخوف المبالغ فيه بأنه، في سياقات مختلفة، مثل العمل، الوضعية المالية و العلاقات الشخصية، سيتحوَّل كل شيء إلى الأسوأ؛ أو نُعطي و نجد اعتبارات متكررة و مستمرة لجميع الجوانب السلبية للحياة: المعاناة، الموت، الصراعات، الشعور بالذنب، الإستياء، المشاكل التي لم يتم حلُّها، الأخطاء المُحتملة و ما إلى ذلك و التي يصاحبها تقليل أو إنكار الجوانب الإيجابية و المتفائلة. غالبا ما يكون هناك تخوف مبالغ فيه من ارتكاب الأخطاء و الخوف من عواقبها: الخراب، الإذلال و الوضع الذي لا يطاق. في كثير من الأحيان، نحن قلقون، متشائمون و غير سعداء و غالبا ما نكون مترددين.
السيطرة المفرطة
عادة ما يكون التحكم المفرط في ردود الفعل العفوية من مشاعر، كلمات، سلوكات، أفعال… موجوداً لتجنب الأخطاء، الكوارث و الفوضى أو خوفا من عدم القدرة على التحكم في دوافعنا. يمكننا التمييز بين:
- قمع الغضب و العدوان
- الحاجة القهرية إلى النظام و الدقة
- قمع الدوافع الإيجابية: فرح، مودة، ألعاب، إثارة جنسية.
- التقيد المفرط بالروتين و الطقوس.
- صعوبة التعرف على: نقاط الضعف، التعبير عن المشاعر أو الإحتياجات، بسهولة.
و غالبا ما يتم تطبيق هذه المواقف على الأقارب.
مُثُل عليا مُلِحَّة
الاعتقاد بضرورة السعي لتحقيق مستوىً من الكمال و الحفاظ عليه في سلوكنا و أدائنا هو مثلٌ أعلى متجهٌ لتجنب النقد. هذه المتطلبات تؤدي إلى توتر مستمر؛ التوقف في جهودنا أو الإسترخاء يصبح مستحيلا. يجري و يتم نقد ثابت و مستمر للنفس و للآخرين. نتيجة لذلك، نعاني من نقص في الملذات، الإسترخاء، الصحة، احترام الذات، الإستمتاع الشخصي و العلاقات مع الآخرين. يمكننا التمييز بين:
- الكمالية، الأهمية المفرطة التي تُعَلَّق على التفاصيل و التقليل من أداء الفرد.
- قواعد صارمة؛ أهمية الواجب. تنطبق هذه القواعد على العديد من جوانب الحياة: الأخلاق، الثقافة و الدين.
- الاهتمام المستمر بالوقت و الكفاءة، القيام دائما بالمزيد و الأفضل.
العقاب و العقوبة
الميل إلى عدم التسامح، النقد الشديد، نفاذ الصبر و معاقبة الآخرين و النفس، إذا لم يتحقق مستوى الكمال المطلوب. هذا، يؤدي إلى صعوبة مسامحة الأخطاء و العيوب، سواء في النفس أو في الآخرين؛ عدم مراعاة الظروف المخففة؛ و نقص التعاطف و المرونة أو عدم القدرة على اتحاذ و تبني وجهة نظر أخرى أو التسليم بها.
صلابة الأنماط و جمودها
عندما نكون “أصِحَّاء” نقوم بتعديل أنماطنا (اعتقاداتنا) عند المرور بمواقف جديدة، مما يسمح لنا بتطوير سلوكيات مختلفة، تتكيف مع المواقف المختلفة.
و نتحدث عن اضطراب الشخصية عندما تميل و تنحى أنماطنا، غير القادرة على التكيف، نحو الصمود. يصف جيفري يونغ Jeffrey Young ثلاث أنواع من العمليات أو الإستراتيجيات التي تساهم في هذا الصمود و هذه الصيانة. وهي كالتالي:
الإستسلام: المحافظة على الأنماط
يشعر الشخص، يفكر و يتفاعل وفقا لنمطه. يحكم بشكل خاطئ على الأشخاص و الظروف بطريقة تعزز الإعتقادات المتعلقة بنمطه. يخلق المواقف و يختار العلاقات التي تحافظ على نمطه. تشوهات معرفية تحافظ على الأحكام الخاطئة. على سبيل المثال، يتوقف “الإنتباه الانتقائي” إلاَّ على رؤية الحقائق التي تؤكد النمط فقط.
يمكن أن ينحرف تفسير الواقع و تأويله ليتوافق مع الأنماط. من الشائع إعادة إنشاء و خلق السياقات المألوفة التي نشأنا فيها و البحث عنها و فيها. مثلا، يجد الشخص الذي لديه نمط “النقص” أنه من الطبيعي أن يتسامح و يتساهل مع الأشخاص الذين ينتقدونه، مما يحافظ على نمطه. إنه يتصرف إذن، بطريقة تجعلنا نواصل انتقاده و التقليل من شأنه.
و بالمثل، فإن البرودة الواضحة، التي يتسم بها الأشخاص ذوي نمط “العزلة”، تؤثر على كيفية استقبال الناس لهم. أما الشخص الذي لديه نمط “الهجر”، و الذي يعتقد بأنه عرضة للتخلِّي عنه دائما، سيجد طبيعيا الإستثمار في علاقة مع شريك يخشى الإلتزام.
الهروب: تجنب الأنماط
يتجنب الشخص التفكير في الأمور المتعلقة بالنمط، و يتجنب المواقف التي يمكن أن تؤدي إلى تنشيط النمط و تؤدي إلى مشاعر سلبية: من حزن، خجل، قلق أو غضب. غالبا ما يكون غافلا أو غير واعي بوجود نمطه، و لكنه ينكر و ينفي ذلك.
الشخص تحت تأثير نمط “النقص”، سيتجنب ما هو حميمي و خصوصي. و قد يجتنب و ينسحب الفرد ذو نمط “العزلة” من التجمعات، اجتماعات العمل، المؤتمرات و الحفلات. أما الشخص المصاب بنمط “الفشل”، سيتفادى العمل، الدراسة و المشاريع الجديدة. في حين أن الفرد الذي تحت وطأة نمط “التبعية” سيتحاشى الوضعيات و المواقف حيث يجب البرهنة على الاستقلال الذاتي. عمليات التجنب هذه، تمنع اختبار الأنماط و تغييرها تدريجيا.
الهجوم المضاد: التعويض
للشخص تفكير، ردود أفعال و تفاعلات معاكسة لنمطه. و مع ذلك، في الغالب ما تكون سلوكياته متطرفة للغاية و تساعد في الحفاظ على نمطه. على سبيل المثال، قد يطلب الشخص الذي لديه نمط “النقص العاطفي”، الكثير من الاهتمام إلى درجة يترك فيها الآخرين ينفرون و يتبعدون منه و يجد نفسه، بالتالي، أكثر حرمانا من العطف، الحنان و المودة. يمكن لأي فرد أن يُطوِّر شعورا بالتفوق و هو عكس الشعور بالنقص الذي حدث في الطفولة. و يمكنه تكريس الكثير من الطاقة لمكانته الاجتماعية و هيبته و اختيار علاقاته بطريقة تجعله يشعر بالتفوق. و مع ذلك، فإن هذا الهجوم المضاد يمنع الحميمية و الخصوصية من بين أمور أخرى.
الوعي بالأنماط السلوكية
غالبا ما يكون الشخص الذي يعاني من نمط أو أنماط من السلوك غير واعٍ بذلك. وعدم الوعي هذا، يكون إما بسبب أن الاعتقادات المرتبطة بهذه الأنماط تبدو له طبيعية و واضحة و بالتالي، لا يلاحظها أو بسبب أنه يتجنب هذه الأنماط أو يقوم بهجمات مضادة نحوها (انظر صلابة الأنماط و جمودها).
و مع ذلك، فإن هذه الأنماط تحدد تأويل و تفسير المواقف التي يمر بها و يعيشها الشخص. يعني، ما يقوله الشخص لنفسه عن تلك المواقف. هذه التأويلات و التفسيرات هي أفكار ممكن ملاحظتها و بالتالي فهي سهلة المنال و ممكنٌ الوصول إليها عن طريق الوعي. عادة ما يشار إليها بنعت “الأفكار التلقائية”. على سبيل المثال: “ماذا سيقول الناس؟”؛ “يجب أن يتم كل شيء في الوقت المحدد؟”؛ “كيف يجرؤون على معاملتي بهذه الطريقة؟”؛ “إنه لا يهتم بي”؛ “أنا لا أستطيع أن أكون و أبقى وحدي”، الخ…
إن الأفكار التلقائية غالبا ما تنقص و تفتقر إلى الموضوعية. إنها منطقية بالارتباط مع الاعتقادات الأساسية ولكنها دائما ما تكون غير دقيقة في المواقف و الوضعيات المعيشة.
هذه التأويلات و التفسيرات تحدد و تنتج المشاعر و السلوكيات. مثلا، يمكن للشخص المصاب بالوسواس القهري أن يكون قلقا و منزعجا في وضعية أو موقف يخشى فيه أن لا يكون عمله و أداؤه جيدا بما فيه الكفاية. هذا سيؤدي به إلى هدر وقت و طاقة أكثر من اللازم، تجاوز حدوده المألوفة و إهمال احتياجاته الأخرى حتى يكون كل شيء مثاليا في أدق تفاصيله، الخ… أما الشخص النرجسي، فيمكن أن يصبح عدوانيا إذا لم يحصل على التعامل التفضيلي الذي ينتظره.
إن ملاحظة الأفكار التلقائية، ردود الفعل العاطفية و السلوكيات هي الكفيلة بأن توفر لنا معلومات حول الإعتقادات الكامنة وراءها.
اضطرابات الشخصية و الصحة العقلية
تسبب الأنماط المبكرة لعدم التوافق، عندما تَنشَطُ و تُفَعَّلُ، مشاعر قوية و كثيفة تؤدي، في كثير من الأحيان، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، إلى مشاكل نفسية مختلفة، غالبا، مرتبطة باضطرابات الشخصية، مثل الإكتئاب، القلق، الذعر، الوحدة، العلاقات المُدَمِّرة، إدمان الكحول و المخدرات، اضطرابات السلوك الغذائي و الإضطرابات السيكوسوماتية.
في الغالب ما يتعلق الأمر بواحدة من هذه المشكلات التي تدفع مضطرب الشخصية إلى عيادة المعالج النفسي أو الطبيب.
مراجع
– Beck, J.S., Cognitive Therapy of personnality Disorders in P. M. Salkovskis, Frontiers of Cognitive Therapy, Guilford Press, 1996
– Cottraux, J. et Blackburn, I.M.. Thérapies cognitives des troubles de la personnalité. Masson, 1995.
– Young, J.E. et Klosko, J.S., Je réinvente ma vie, Les Éditions de l’Homme, 1995.