الإرتقاء من الطفولة إلى الرشد، طقوس البداية و أزمة المجتمع[1]
الوضعية الإجتماعية للمراهقة
يقول المؤرخ Ph. ARIES بأن المراهقة تعتبر وضعية اجتماعية بدأت في الظهور في نهاية القرن الثامن عشر مع التجنيد و الخدمة العسكرية، و ترسخت في القرن التاسع عشر مع التقدم في التمدرس. في نفس السياق، تُدافع الأنثروبولوجية M. MEAD عن الفكرة القائلة بأن المراهقة هي معطى اجتماعي (ليس هناك، مثلا، مرحلة مراهقة في جزر ساموا Samoa). لكننا لا يمكن لنا اختزال المراهقة في معطى اجتماعي، رغم أنه، حقيقي، أنه في المجتمعات التقليدية هناك طقوس و شعائر خاصة ببداية مرحلة الرشد تحتوي و تقنن أزمة المواجهة بين المراهقين و الكبار. عندما تختفي هذه الشعائر و الطقوس لبداية مرحلة الرشد أو ما يعادلها (التجنيد مثلا) تبدو المراهقة كمعطى اجتماعي على النمط التمردي أو على شكل قلب للقيم الثابثة. حسب A. BIRRAUX “إن المجتمع الذي يتخلى عن طقوس الإنتقال إلى المراهقة يعلن ضمنيا للمراهق بأنه مزعج”، الراشد لا يدعم المراهق في تدبيره لسن البلوغ مبقيا عليه في التبعية (المادية و التكوين المهني) مع دعوته، في نفس الحين، على ضرورة الاستقلالية و الإعتماد على النفس المُبكِّرين. هذه المفارقة تكشف عن صعوبةٍ لدى الوالدين في التجرد من أطفالهم رغم أنهم في نفس الوقت يتمنون صدَّهم و إبقائهم عن بُعد تماما كما يجري في “السيرورة الثانية لفصل الفردانية” لدى المراهقين، و التي يدخل خلالها المراهق عملية التنصل و الانعتاق من الصور الداخلية للوالدين لاختيار موضوعات نفسية أخرى للاستثمار فيها بهدف بلورة فردانيته الخاصة.
مراهقة أم شباب؟ فترة من الحياة أو انتماء إلى مجموعة اجتماعية؟ النعت “شاب” يحيلنا على فكرة الفئة العمرية، الفئة العمرية للمراهقة تبتدئ في سن البلوغ.
بالنسبة لعلم الاجتماع، مرحلة الشباب حاليا ليست فقط مرحلة انتقالية ولكن فترة عمرية كاملة من الحياة: الشاب لم يعد فقط “الوارث” لتقاليدَ و وضعٍ اجتماعي ما (P. Bourdieu)، إنه هو الذي يبني نفسه (تكوين، توجيه و اتخاذ قرارات) للإنتقال من المدرسة إلى الحياة المهنية و من الأسرة الأصلية إلى التي سيؤسسها هو.
في ألمانيا، عام 1980، تأخذ المدرسة و التكوين 26% من الحياة، بفرنسا 27% من الشباب ذوو 25 عاما يعيشون عند والديهم. و من ناحية أخرى، الحياة الفردية مع الجماعة، أو كزوجان بدون عقد، أصبحت موضة الحياة المسيطرة. تمديد مرحلة الشباب يعطي الوقت و الحرية لاختيار شريك الحياة و فترة تجريبية تسبق الحياة كزوجين (بعقد أو بدون عقد) ذوو أطفال. مشروع الحياة يتفرد أكثر فأكثر، و في نفس الوقت تزداد الحاجة إلى الإبداع في المعنى و النشاط المهني رغم أن التبعية الاقتصادية (و ربما الثقافية أيضا) اتجاه جيل الوالدين تزداد أكثر.
القانون يجهل المراهقة و يكتفي بالتفريق بين القاصر و الراشد. ولكن مؤخرا، هناك قوانين تجبر الوالدين إعطاء أطفالهم الإمكانيات اللازمة لتكملة دراستهم، ما يقوي صلاحيات و امتيازات الشباب الكبار المتمدرسين مع إبقائهم حبيسي وضعية طفولية.
إذن ما هو الوصول إلى سن الرشد؟ هل هو الوصول إلى حياة عاطفية كاملة؟ الوصول إلى العمل و إلى وضعية اجتماعية؟ العمل أصبح يميل إلى أن يكون بديلا للأسرة كمنبع للقيود، قانون رب العمل (المُشغِّل) يصبح بديلا و يلي قانون الوالد، و مع ذلك، فالوصاية الوالدية تبقى أكثر من أي وقت : يكفي رؤية الوالدين يقومون مقام بناتهم و أبنائهم مثلا للوقوف في الطابور من أجل التسجيل في الجامعة أو تأمين الضمانة المادية من أجل كراء محل. إجبارية التمدرس عززت العائلة و أخرت الزواج. كل طفل له المزيد من القيمة على هذا النحو، الأسر أصبحت أقل كثرة، الزواج لا يمكن له أن يكون قبل تأمين المستقبل. ولكن يمكن القول أيضا أنه بتمديد وضعية “المُساعَد” تؤخر المدرسة وضعية المُستغَلِّ. الطلبة محميون مؤقتا من الاستغلال و البطالة، ربما يمكننا تسميتهم “الكبار المراهقين” (O. Vallet). نهاية المراهقة و ما بعد المراهقة تطابق، من وجهة النظر هذه، “وقفاً سيكواجتماعيا” (E.-H. Erickson)، مرحلة توجس و تشويق قبل الدخول الفعلي في “الحياة العملية” للكبار التي تُمكِّن من توطيد هوية ثابتة. هذه المرحلة التشويقية المقصود منها أن تكون وقائية ولكن لديها أيضا خصائص مرحلة صعبة لتجسيد الانتقال على الواقع (هكذا فالامتحانات و المباريات تُعين الناجحين و تشجب و تفضح الفاشلين).
إن المراهق يعتبر كاشفا لأزمة الروابط الاجتماعية. إنه يُسائل القيم الاجتماعية السائدة و الموروثة من جيل لآخر، إنه دائما في حيرة أمام كل ما يبدو له غير معروف أو غريب. الفجوة الحاصلة بين المثل العليا للمراهقين و الأنا الأعلى الوالدي (الأبوي) و السوسيوثقافي يأتي لكي يقوي الشعور بالذنب الناتج عن الرغبة في إزاحة الوالدين من أجل الرشد. قلق الموت، أيضا، يمكنه أن يصبح خانقا (قلق موت الوالدين، ولكن أيضا موت المراهق بنفسه في السن الذي يأخذ فيه الوعي بحتمية موته يوما ما).
تآكل دعم الأسرة و المجتمع، تضاعف وظيفة و دور الأب يُقوِّضون أسس الأنا الأعلى لكثير من المراهقين و راشدين شباب في معيش يومي موسوم بتفشي الشعور بالذنب، الانحراف و المرض العقلي. النهج السوسيولوجي يمكنه المساهمة في إضاءة و تفسير بعض السلوكات المرضية. يمكننا، على سبيل المثال، أن نبحث على ربط بعض الحركات المرضية مع ظاهرة تكرار السنة الدراسية أو مع انفصال الوالدين. أو يمكننا كذلك القيام بإحصائيات تفرق حسب الجنس، السن و البيئة الاجتماعية في علاقتها مع استهلاك المخدرات، أو هجر البيت العائلي، أو بطبيعة الحال السلوكات العنيفة. سنكتشف بأن الذكور يتبنون و ينحون بالأحرى إلى اضطرابات سلوكية فعلية أما الإناث فينحون إلى اضطرابات مرتبطة أساسا بالجسم (الشراهة و فقدان الشهية المرضيين)، أو توجد هناك ارتباطات بين التسكع في الشوارع و الأزقة و الهدر المدرسي، بين محاولات الانتحار و استهلاك المخدرات.
هذا النهج يؤدي إلى الدعوة إلى اتخاذ تدابير وقائية، ولكن لن يضبط، على سبيل المثال، العنف الصامت للإكتئاب الذي يسبق محاولة الإنتحار. الاضطرابات النفسية في مرحلة المراهقة لا يمكن اختزالها فقط في سياقها السوسيولوجي، حتى ولو أنه حاليا هناك تفكير عميق حول طبيعة الروابط الاجتماعية بإمكانه الوصول إلى تحديد حجم تأثير و صدى التحولات الثقافية و الرمزية الجـاريــة. يمكن أن نفترض أن بعض السلوكات المراهِقة هي عبارة عن بدائل غير مؤهلة وغير ماهرة للطقوس التقليدية لبداية مرحلة الرشد. هناك جانب كبير من أعراض المراهقة (التمرد و التهميش، الفخر بوجود الكراهية للآخر، الهجوم على الجسم و تشويهه، التناقض الهائل نحو الآخر ما بين الرغبة في الاستقلال الذاتي و الحاجة إلى التبعية)، كل هذه الأعراض تخون، افتراضيا، متطلبات التنظيم الرمزي للعلاقة مع الشيء، للعلاقة الاجتماعية و للعلاقة مع العالم.
أزمة المراهقة، هذا التوقف الفجائي للعبور إلى مرحلة الرشد، يحدد دائما اليوم، ليس فقط، تمزقا أو انفصاما للتطور ولكن كذلك لحظةً تمهيدية تميل إلى الدوام في هامشيةٍ غير مُبنينة، لأن التخلي الضروري عن هوية الطفل لا يؤدي، تلقائيا، إلى إعادة هيكلة هوية الــراشد : هذا النوع من التوقف يبدو إذن كإعادة لطقس من طقوس البداية: ممنوع، متدهور و منغلق على أداء نرجسي، غير شبقي و ميكانيكي أكثر فأكثر. بصفة عامة، كثير من السلوكات المراهِقة التي ليست بالضرورة مرضية تُتَرجم بحثا على لقاء الغير و المجهول.
[1] هذا المقال هو ترجمة، بتصرف، للفصل الخامس من كتاب : Les troubles psychiques à l’adolescence, François RICHARD, édition Dunod, coll. Les topos, Paris 2013.